العيشة الهنية الراضية الباقية عيش الآخرة

[box type=”shadow” align=”” class=”” width=””]عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: “”خَطَبَ النَّبيُّ ﷺ فَقال: إنَّ اللهَ خيَّر عَبدًا بينَ الدُّنيا وبَين ما عِندَه، فاخْتار ما عِندَ اللهِ. فَبَكى أبو بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقُلتُ في نَفسي: ما يُبكي هَذا الشَّيخَ إنْ يَكُنِ اللهُ خيَّر عَبدًا بينَ الدُّنيا وبَينَ ما عِندَه، فاختارَ ما عِندَ اللهِ؟! فَكان رَسولُ اللهِ ﷺ هوَ العبدَ، وكان أَبو بكرٍ أَعْلَمَنا”” (صحيح البخاري ٤٦٦). قال ابن عثيمين رحمه الله: “”العيشة الهنية الراضية الباقية هو عيش الآخرة. أما الدنيا فإنه مهما طاب عيشها فمآلها للفناء””. ‏ شرح رياض الصالحين (٣/٣٦٤)[/box]

الشرح و الإيضاح

كان أبو بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه أَقْرَبَ الناسِ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهو رَفِيقُه في هِجرتِه، وهو أعظمُ هذه الأُمَّةِ إيمانًا وتصديقًا، بحيثُ لو وُزِن إيمانُه بإيمانِ الناسِ كلِّهم لرَجَح إيمانُه.
وفي هذا الحديثِ: جَلَس رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم جالسًا على المِنْبَرِ فقال: «إنَّ عَبْدًا خَيَّره اللهُ بينَ أن يُؤْتِيَه مِن زهرةِ الدُّنيا ما شاء، وبينَ ما عِندَه، فاختار ما عنده»، وزهرةُ الدُّنيا: نَعِيمُها وزِينَتُها، فلمَّا سَمِع أبو بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه ذلك القولَ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بَكَى، وقال: فَدَيْناك بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! فتَعجَّب القومُ مِن قولِ أبي بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه وبُكائِه؛ إذ لم يَفْهَموا مِن كلامِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ما يَسْتَدْعِي ذلك البُكاءَ والقولَ مِن أبي بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه، ولكنَّ الصِّدِّيقَ رضِي اللهُ عنه قد فَهِم مِن هذا الكلامِ مُفَارَقَتَه صلَّى الله عليه وسلَّم الدُّنيا، فبَكَى لذلك وقال ما قال، فلمَّا مات صلَّى الله عليه وسلَّم فَهِم الناسُ مَقْصِدَه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن كلامِه؛ ولذلك قال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رضِي اللهُ عنه: فكان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو المُخيَّرَ، أي هو الذي خَيَّره الله بين نَعِيم الدُّنيا وبين لِقائِه، وكان أبو بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه أعلمَ الناسِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وكان صلَّى الله عليه وسلَّم قد قال في حقِّه: «إنَّ مِن أَمَنِّ الناسِ عليَّ في صُحبتِه ومالِه: أبا بَكْرٍ» ومعناه: أنَّه أكثرُهم جُودًا وسَمَاحةً لنا بنفسِه ومالِه، وليس هو مِن المَنِّ الذي هو الاعْتِدَاد بالصَّنِيعَة؛ لأنَّه أذًى مُبطِلٌ للثَّوَابِ، ولأنَّ المِنَّةَ للهِ ولرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في قَبُولِ ذلك وفي غيرِه، «ولو كنتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِن أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ، إلا خُلَّة الإسلامِ» قيل: أصلُ الخُلَّةِ الافتِقارُ والانقِطاعُ، فخَلِيلُ الله: المُنقطِع إليه، وقِيل: لِقَصْرِه حاجتَه على الله تعالى، وقِيل: الخُلَّةُ: الاختِصاص، وقِيل: الاصطِفاء، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس له خَلِيلٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد اتَّخَذَه خَلِيلًا، وهذا لا يُنافِي ما ذَكَره الصَّحَابةُ رضِي اللهُ عنهم مِن اتِّخاذِهم إيَّاه صلَّى الله عليه وسلَّم خليلًا؛ إذ لا يُشتَرَط في الخُلَّة أن تكونَ مِن الطَّرَفَيْنِ، ولَوِ اتَّخَذَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أحدًا خليلًا لَاتَّخَذَ أبا بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه؛ لأنَّه أهلٌ لذلك لَوْلَا المانِع؛ فإنَّ خُلَّةَ الرَّحْمَنِ تعالى لا تَسَعُ مُخَالَّةَ شيءٍ غيرِه أصلًا، ولكن هذا لم يَكُنْ، ولم يَكُنْ بين النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبينه رضِي اللهُ عنه إلا أُخُوَّةُ الإسلامِ، «لا يَبْقَيَنَّ في المسجدِ خَوْخَةٌ إلا خَوْخَةُ أبي بَكْرٍ»، والخَوْخَة: البابُ الصغِير، وكان بعضُ الصَّحابةِ فَتَحوا أبوابًا في دِيارِهم إلى المسجدِ، فأَمَر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بسَدِّها كلِّها إلَّا خَوْخَةَ أبي بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه؛ لِيَتميَّز بذلك فضلُه.
وفي الحديثِ: دليلٌ على فضلِ أبي بَكْرٍ رضِي اللهُ عنه.
وفيه: تَعْرِيضٌ بالخلافةِ له بَعْدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفيه: أنَّ المساجِدَ تُصانُ عن تطرُّق النَّاسِ إليها في خَوْخَاتٍ ونحوِها، إلَّا مِن أبوابِها، إلَّا لحاجةٍ مُهِمَّة.

مصدر الشرح:
https://dorar.net/hadith/sharh/6516