الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعدُ:
فالصلاة عمادُ الدِّين، وركنُ الإسلام الأعظم، والخشوع فيها هو روح الصلاة، وسرّ قبولها، وسببُ الفوز بأرفع درجاتها، ولا يتأتَّى الخشوع إلا بتعظيم قَدْر الصلاة، وتعلُّم أحكامها؛ ولذلك ينبغي للمسلم الاعتناء بالصلاة وتعلُّم أحكامها، وأركانها، وواجباتها، وشروطها، وسننها، ثم يجاهد نفسه دائمًا للوصول إلى الخشوع في صلاته؛ من خلال التفكر في الآيات وتعظيم ربّ الأرض والسماوات، وليعلم دائمًا أنه يقف في موقف عظيم، فيخلص لله وقته ونفسه، ويُحْضِر قلبه، ويكثر من ذِكْر الله والخضوع له؛ لأن ذِكْر الله في الصلاة والقرب منه واستشعار عظمته واللجوء إليه من مقاصد الصلاة العظمى.
واستكمالاً لمقال أفعالٌ تباح في الصلاة نفصِّل الكلام في عدد الحركات التي تبطل الصلاة، حيث عَنَّ تساؤل حول هذا الأمر، ووجب إيضاحه وإكماله.
الخشوع في الصلاة
في البداية لا بد من التأكيد على أن الخشوع في الصلاة، وحُسْن الأدب في الوقوف بين يدي الله من أعظم الأعمال، فلا ينبغي للواقف بين يدي ربه أن يلتفت لغيره، ولا ينشغل بأي شيء، وقد قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1، 2].
وقال رسول الله ﷺ: “إنَّ اللهَ ينصِبُ وجهَهُ لوَجهِ عَبدِهِ في صَلاتِهِ ما لَم يَلتَفِتْ” (صحيح الترمذي ٢٨٦٣)، فحريّ بالمسلم أن يجاهد نفسه في الوقوف خاشعًا خاضعًا، ساكن الجوارح، ليحقق الخشوع في الصلاة، الذي هو بمنزلة الروح من الجسد، فإذا فُقِدَت الروح مات الجسد، فالخشوع روح الصلاة، ولبُّها.
السكون في الصلاة
ولذا يجب على المؤمن السكون في الصلاة، الرسول ﷺ قال: “اسكُنوا في الصلاة” (صحيح مسلم: ٤٣٠)، فالواجب على المصلِّي السكون في الصلاة والخشوع فيها وعدم إكثار الحركة التي تبطلها وتجعله كأنه لا يصلي، فالشيء القليل يعفى عنه، أما إذا كثرت الحركات وتوالت فإنها تبطل الصلاة عند أهل العلم جميعًا، فالواجب الحذر من الحركات الزائدة عن الحد.
أما الحركات القليلة والمتفرقة فيُعْفَى عنها، فالنبي ﷺ صلَّى وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب، إذا سجد وضعها وإذا قام حملها ﷺ، وفتح الباب لعائشة، وتقدّم في صلاة الكسوف، فالشيء القليل الذي يعرض للإنسان يُعْفَى عنه، لكنَّ الحركات الكثيرة إذا توالت تبطل الصلاة؛ وسنوضح لاحقا عدد الحركات التي تبطل الصلاة.
أقسام الحركة في الصلاة وأحكامها
وقد ذكر فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- أن الحركة في الصلاة الأصل فيها الكراهة إلا لحاجة، ومع ذلك فإنها تنقسم إلى خمسة أقسام:
- القسم الأول: حركة واجبة.
- القسم الثاني: حركة محرمة.
- القسم الثالث: حركة مكروهة.
- القسم الرابع: حركة مستحبة.
- القسم الخامس: حركة مباحة.
الحركة الواجبة
فأما الحركة الواجبة: فهي التي تتوقف عليها صحة الصلاة، مثل أن يرى في غترته نجاسة، فيجب عليه أن يتحرك لإزالتها ويخلع غترته، وذلك لأن النبي ﷺ أتاه جبريل وهو يصلي بالناس فأخبره أن في نعليه خبثاً فخلعها ﷺ وهو في صلاته واستمر فيها [رواه أبو داود 650، وصححه الألباني في الإرواء 284].
ومثل أن يخبره أحد بأنه اتجه إلى غير القبلة؛ فيجب عليه أن يتحرك إلى القبلة.
الحركة المحرمة
وأما الحركة المحرمة: فهي الحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة؛ لأن مثل هذه الحركة تبطل الصلاة، وما يبطل الصلاة فإنه لا يحل فعله؛ لأنه من باب اتخاذ آيات الله هزوًا.
الحركة المستحبة
وأما الحركة المستحبة: فهي الحركة لفعل مستحب في الصلاة، كما لو تحرك من أجل استواء الصف، أو رأى فرجة أمامه في الصف المقدم فتقدم نحوها وهو في صلاته، أو تقلص الصف فتحرك لسد الخلل، أو ما أشبه ذلك من الحركات التي يحصل بها فعل مستحب في الصلاة؛ لأن ذلك من أجل إكمال الصلاة، ولهذا لما صلى ابن عباس رضي الله عنهما مع النبي ﷺ، فقام عن يساره أخذ رسول الله ﷺ برأسه من ورائه فجعله عن يمينه. [متفق عليه]
الحركة المباحة
وأما الحركة المباحة: فهي اليسيرة لحاجة، أو الكثيرة للضرورة، أما اليسيرة لحاجة فمثلها فعل النبي ﷺ حين كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله ﷺ وهو جدها من أمها فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها [البخاري 5996 ومسلم 543].
ما حكم الحركة الكثيرة للضرورة في الصلاة؟
وأما الحركة الكثيرة للضرورة: فمثالها الصلاة في حال القتال؛ قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 238-239]؛ فإن من يصلي وهو يمشي لا شك أن عمله كثير ولكنه لما كان للضرورة كان مباحاً لا يبطل الصلاة.
الحركة المكروهة
وأما الحركة المكروهة: فهي ما عدا ذلك وهو الأصل في الحركة في الصلاة، وعلى هذا نقول لمن يتحركون في الصلاة إن عملكم مكروه، منقص لصلاتكم، وهذا مشاهد عند كل أحد فتجد الفرد يعبث بساعته، أو بقلمه، أو بغترته، أو بأنفه، أو بلحيته، أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من القسم المكروه إلا أن يكون كثيراً متوالياً فإنه محرم مبطل للصلاة.
عدد الحركات التي تُبطل الصلاة
وقد ذكر رحمه الله أيضًا أن الحركة المبطلة للصلاة ليس لها عدد معين، وإنما هي الحركة التي تنافي الصلاة، بحيث إذا رُئِيَ هذا الرجل فكأنه ليس في صلاة، هذه هي التي تبطل؛ ولهذا حدده العلماء -رحمهم الله- بالعرف، فقالوا: ” إن الحركات إذا كثرت وتوالت فإنها تبطل الصلاة “، بدون ذكر عدد معين، وتحديد بعض العلماء إياها بثلاث حركات، يحتاج إلى دليل؛ لأن كل من حدد شيئاً بعدد معين، أو كيفية معينة، فإن عليه الدليل، وإلا صار متحكماً في شريعة الله. [مجموع فتاوى الشيخ 13/309-311].
حكم الحركة الكثيرة في الصلاة
سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- عن رجل كثير الحركة في الصلاة: هل تبطل صلاته؟ وما الطريق للتخلص من ذلك؟
فقال رحمه الله: (السنة للمؤمن أن يقبل على صلاته ويخشع فيها بقلبه وبدنه، سواء كانت فريضة أو نافلة، لقول الله سبحانه: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون) [المؤمنون: 1-2]، وعليه أن يطمئن فيها، وذلك من أهم أركانها وفرائضها، لقول النبي ﷺ للذي أساء في صلاته ولم يطمئن فيها: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصل)، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال الرجل: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال النبي ﷺ: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا) متفق عليه، وفي رواية لأبي داود قال فيها: (ثم اقرأ بأم القرآن، وبما شاء الله).
وهذا الحديث الصحيح يدل على أن الطمأنينة ركن في الصلاة، وفرض عظيم فيها، لا تصح بدونه، فمن نقر صلاته فلا صلاة له، والخشوع هو لب الصلاة وروحها، فالمشروع للمؤمن أن يهتم بذلك، ويحرص عليه.
أما تحديد الحركات المنافية للطمأنينة وللخشوع بثلاث حركات فليس ذلك بحديث عن النبي ﷺ، وإنما ذلك كلام لبعض أهل العلم، وليس عليه دليل يعتمد.
ولكن يُكره العبث في الصلاة، كتحريك الأنف واللحية والملابس والاشتغال بذلك، وإذا كثر العبث أبطل الصلاة، وأما إذا كان قليلا عرفا، أو كان كثيرا ولم يتوال، فإن الصلاة لا تبطل به، ولكن يشرع للمؤمن أن يحافظ على الخشوع، ويترك العبث، قليله وكثيره، حرصا على تمام الصلاة وكمالها.
ومن الأدلة على أن العمل القليل والحركات القليلة في الصلاة لا تبطلها، وهكذا العمل والحركات المتفرقة غير المتوالية، ما ثبت عن النبي ﷺ، أنه فتح الباب يوما لعائشة وهو يصلي [أبو داود 922 والنسائي 3/11 والترمذي 601، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي 601].
وثبت عنه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه صلى ذات يوم بالناس، وهو حامل أمامة بنت ابنته زينب، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. [فتاوى علماء البلد الحرام 162-164 وحكم كثير الحركة في الصلاة من موقع الإمام ابن باز]
كم عدد الحركات التي تبطل الصلاة؟
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- سؤالاً مختصرًا: كم عدد الحركات التي تبطل الصلاة؟
فأجاب: “ليس لها عدد معين بل الحركة التي تنافي الصلاة بحيث إذا رُئِيَ هذا الرجل قيل: إنه ليس في صلاة هي التي تبطل، ولهذا حددها العلماء -رحمهم الله- بالعرف؛ فقالوا: إن الحركات إذا كثرت وتوالت فإنها تبطل الصلاة بدون ذِكْر عدد معين، وتحديد بعض العلماء إياها بثلاث حركات يحتاج إلى دليل؛ لأن كل مَن حدَّد شيئًا بعددٍ معين أو كيفية معينة؛ فإن عليه الدليل وإلا صار متحكمًا في شريعة الله” رابط الفتوى الصوتية على موقع طريق الإسلام.
وإذا رأى الإنسان من أخيه حركة زائدة نصحه ووجَّهه إلى الخير ولو بالإشارة في الصلاة، وبعد الصلاة ينصحه بالكلام وبحال الصلاة، بالإشارة حتى ينتبه لنفسه وحتى يدع هذه الأشياء التي اعتادها.
وعلى المسلم أن يُحْرِز صلاته مما ينقصها، وينأى بنفسه عن أيّ شيء يُفْسِدها، ويعمل على الخشوع في صلاته، وحُسْن أدائها لتكون صلاته مقبولة عند الله، مثمرة في ذاته كفًّا وامتناعًا عن المحرَّمات. ونسأل الله القبول والتوفيق وحسن الخاتمة.