حوت العنبر الذي أخرجه الله للصحابة من البحر

[box type=”shadow” align=”” class=”” width=””]كان الصحابة رضي الله عنهم في سَرِيّة من السرايا (السَرِيّة: جيشٌ صغير) وكان أميرُهم في تلك السَريّة الصحابيَ الجليلَ أبا عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه. فلمّا خرجوا من المدينة، ومشوا أيامًا أصابهم جوعٌ وضعفٌ شديد، فلمّا وصلوا الساحل ألقى لهم موج البحر حوتًا عظيمًا يُقال له العَنبر، فأخذوه فأكلوا من لحمه وأدّهنوا من شحمه حتّى رجعتْ إليهم قوّتهم. ثْمّ إنّ أبا عُبيدة وأصحابه أخذوا يعجبون مِنْ ضخامة هذا الحوت، فأخذوا ضِلعًا من أضلاعه فنصبوه كالقوس، وركب أحد الصحابة جملًا فمرّ من تحته، وفرّغوا عينه ودخل فيها ثلاثة عشر رجلًا فوسعتهم! وكان ذلك مصدر رِزق وعَجَب ومتعة للصحابة رضي الله عنهم. فلمّا رجعوا إلى المدينة جاءوا إلى النبي ﷺ فأخبروه، وسألوه عن حُكم أكل لحم ذلك الحوت، وذكروا له أنّهم كانوا مضطرّين إليه بسبب الجوع، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (هو رزقٌ أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ فتُطعِمونا؟) قالوا نعم، فأرسلوا إليه، فأكل منه. (صحيح مسلم ١٩٣٥)[/box]

الشرح و الإيضاح

الجِهادُ ذِرْوةُ سَنامِ الإسلامِ، وقدْ ضَمِنَ اللهُ تعالى لمنْ يخرُجُ في سَبيلِه؛ ابتِغاءَ مرْضاتِه، أنْ يعودَ إلى بيتِه بما نالَ مِن أجرٍ أو غَنيمةٍ، أو يتقبَّلَه عندَه مِن الشُّهداءِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عَنهما: “بَعَثنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّرَ علينا أبا عُبيدةَ”، أي: وجَعلَ أبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ أميرًا على تلكَ السَّرِيَّةِ. “نتلقَّى عيرًا لقُريشٍ”، أي: إنَّ سَببَ خُروجِهم كانَ لقَطعِ الطَّريقِ على قافلةٍ كانتْ لقريشٍ، وكانَ ذلكَ سنةَ سِتٍّ، وقيلَ: ثمانٍ مِن الهِجرةِ. والعِيرُ: الإبلُ التي تحمِلُ الطعامَ، “وزوَّدَنا”، أي: أمدَّنا وأعْطانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، “جِرابًا مِن تَمرٍ” والجِرابُ: وِعاءٌ مَصنوعٌ مِن جلدٍ. “لم يجِدْ لنا غَيرَه”؛ إشارةً إلى الفَقرِ والحاجةِ التي كان عليها المسلِمونَ آنذاكَ، قالَ جابرٌ: “فكانَ أبو عُبيدةَ يُعطينا تمرةً تمرةً”، أي: يَقسِمُ ويوزِّعُ على السرِيَّةِ واحدةً واحدةً. قالَ أبو الزُّبَيرِ: فقلتُ: “كيفَ كُنتم تَصنعونَ بها؟”، أي: بِتلكَ التَّمرةِ الواحدةِ، والمرادُ: هلْ كانتْ تَكفي حاجَتكم؟! قال جابرٌ: “نَمَصُّها كما يَمَصُّ الصبيُّ”، أي: نَمَصُّ تلكَ التَّمرةَ كما يَمَصُّ الصبيُّ ثدْيَ أُمِّه، “ثم نَشربُ علَيها مِن الماءِ. فتَكفينا يومَنا إلى الليلِ، وكُنا نضرِبُ بعِصيِّنا الخَبَطَ” وهوَ ما يتَساقَطُ مِن ورقِ الشَّجرِ بعدَ خَبطهِ، “ثم نبُلُّه بالماءِ فنأكلُه”، أي: يأكلُونَه بجانبِ التَّمرِ.
قال جابرٌ رضِي اللهُ عنه: “وانطلَقْنا على ساحلِ البَحرِ”، أي: سارُوا بجانِبه وعلى شاطِئهِ “فرُفِعَ لنا”، أي: ظَهرَ لنا، “على ساحلِ البحرِ كَهيئةِ الكَثِيبِ الضَّخمِ”، والكَثيبُ: التلُّ المتجمِّعُ من الرَّملِ، “فأتَيْناهُ”، أي: فاقترَبْنا منه، “فإذا هي دابَّةٌ تُدعَى”، أي: تُسمَّى، “العَنْبرَ”. والعَنبرُ: نَوعٌ مِن الأسْماكِ يصِلُ طولُه إلى خَمسينَ ذِراعًا، وسُميَ بالعَنبرِ وهوَ الطِّيبُ المعروفُ؛ لأنَّه يُستخرَجُ مِن أمعائِه، قالَ جابرٌ: قالَ أبو عُبيدةَ: “مَيْتةٌ”، أي: لا يَحِلُّ لنا أكْلُه، ثمَّ قالَ: “لا، بلْ نحنُ رسُلُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفي سَبيلِ اللهِ، وقد اضْطُرِرتم؛ فكُلوا”، أي: كان أبو عُبَيدةَ سيَنهى عن أكلِه؛ لأنَّها مَيْتةٌ وأكلُ الميْتةِ محرَّمٌ، ثم بَدَا له أنهم اضْطرُّوا إليها فأَباحَ لهمْ أكلَها.
قالَ جابرٌ: “فأقَمْنا عليهِ”، أي: على أكْلِ هذا العَنبرِ، “شهرًا، ونحن ثلاثُ مِئةٍ حتى سمِنَّا”، وفي هذا مبالَغةٌ وإشارةٌ إلى ما كانوا فيهِ مِن شِبعٍ، ثم جَعَلَ جابرٌ يُفصِّلُ في حجم العَنبرِ وكيفَ كانَ يأخذونَ مِنه ويأكلونَ، فقال: “ولقدْ رأيتُنا نغتَرِفُ مِن وَقْبِ عَينِه بالقِلالِ الدُّهنَ”، أي: الدَّسَمَ والزَّيتَ الذي يكون بداخلِ العينِ، والوَقْبُ: حُفرة العَينِ التي في عَظمِ الوَجْهِ، والقُلَّةُ: الجرَّةُ الكَبيرةُ، “ونَقتطِعُ مِنه الفِدَرَ”، أي: القِطْعةَ الكبيرةَ مِن اللَّحمِ والشَّحمِ، “كالثَّورِ- أوكقَدر الثَّورِ-“، أي: كانَت القِطعةُ مِنه في حَجمِ الثورِ، والثورُ: الذَّكَرُ الكبيرُ من البقرِ. يقول جابرٌ: “فلقدْ أخذَ منَّا أبو عُبيدةَ ثلاثةَ عشرَ رجلًا فأقْعدَهم في وقْبِ عَينهِ”، أي: أجلَسهم في حُفرةِ عينِ العَنبرِ فأخذَتهم جميعًا، “وأخذَ ضِلعًا مِن أضْلاعهِ”، أي: عَظمًا مِن عِظامِ الصَّدرِ، “فأقامَها”، أي: أوقفَها على الأرضِ ليعلَمَ مدَى طولِها، “ثم رحَلَ أعظمَ بَعيرٍ مَعنا”، أي: جاءَ بأعلى جَملٍ مَعهم وجَعَلَ عليهِ مِن الرَّحْلِ والمتاعِ؛ وذلكَ ليبلُغَ بهِ أعلى ارتفاعٍ ممكنٍ، “فمرَّ”، أي: البعيرُ بالرَّحلِ الذي عليهِ، “من تحتِها”، أي: مِن تحتِ تلكَ الضِّلعِ فلم يبلُغِ البعيرُ ارتِفاعَ الضِّلعِ، قال: “وتزوَّدْنا مِن لحمِهِ وشائِقَ”، أي: حملوا مَعهم مِن لحمهِ، وجعلوهُ وشائقَ، أي: قَدِيدًا، وصفة ذلك أن يُؤْخَذَ اللَّحمُ ويُطَهى دُونَ النُّضوجٍ ثم يُجفَّف بالشَّمسِ؛ ليبْقى مَعهم حالَ السَّفرِ.
قالَ جابرٌ رضِي اللهُ عنه: “فلمَّا قدِمْنا المدينةَ أتَينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذَكرْنا ذلكَ لهُ”، أي: بقِصَّةِ العَنبرِ، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “هو رِزقٌ أخرَجهُ اللهُ لكم؛ فهل مَعكم من لحمِه شيءٌ فتُطعِمونا؟ “، وهذا إشارةٌ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّ مَيتةَ البحرِ حِلٌّ أكلُها حتى في غَيرِ اضْطرارٍ، قالَ جابرٌ رضِي اللهُ عنه: “فأرسَلْنا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنه”، أي: مِن لَحمِ العَنبرِ، فأكلَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يُطيِّبَ نُفوسَهم في حِلِّ ذلك اللحمِ.

مصدر الشرح:
https://dorar.net/hadith/sharh/26669