توقير الصحابة وتعظيمهم للرسول ﷺ

[box type=”shadow” align=”” class=”” width=””] قال عروة بن مسعود لقريش: “دخلت على الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي، فلم أر أحدًا يعظمه أصحابه مثل ما يُعظِّم أصحاب محمد محمدًا، كان إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفَّضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيمًا له” (صحيح البخاري 2731).[/box]

الشرح والإيضاح

صُلحُ الحُدَيْبِيةِ كانَ فَتحًا للمُسلمينَ قبلَ الفَتحِ، وهذا الحديثُ يحْكي قصَّةَ الصُّلحِ، وفيه: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَرجَ زمَنَ الحُدَيبِيةِ هو وأصحابُه، حتى إذا كانوا بِبعضِ الطَّريقِ.
قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ خالِدَ بنَ الوَليدِ بالغميمِ، وكان خالدٌ وقْتَذاك على الكُفرِ، “والغَميمُ”: وادٍ قريبٌ مِن مكَّةَ، في خَيلٍ لقُريش طَليعةٌ، و”الطَّليعةُ”: مُقدِّمةُ الجَيشِ، فأمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصحابَه أنْ يأخُذوا ذاتَ اليمينِ، أي: يَتنحَّوْا ويَبعُدوا عن الطَّريقَ التي فيها خالِدٌ وأصحابُه، وكانَ أَمرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم بأنْ يأخُذوا ذاتَ اليمينِ حتى لا يَشعُرَ بهم خالدُ بنُ الوليدِ، فلمْ يشعُرْ بِهم خالدٌ إلَّا وهُم بـ “قَتَرةِ الجَيشِ”، أي: الغُبارُ الأسودُ الذي أثارَتْهُ حوافِرُ خيلِ الجَيشِ، فما كانَ من خالدٍ إلَّا أنِ انطلَقَ يرْكُضُ نذيرًا لقُريشٍ يُخبِرُهمْ بمَقْدَمِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واقترابِهِ من مكَّةَ، والمرادُ بِـ “الرَّكْضِ”: ضَربُ الخَيلِ بالأَرجلِ على بُطونِها لاستِعجالِها في الإِسراعِ، واستكْملَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَيرَه حتى إذا كانَ بالثَّنِيَّةِ، وهِيَ: ثَنِيَّةُ المُرارِ، وهيَ: طَريقٌ في الجَبلِ، وقيلَ: موضِعٌ بينَ مكَّةَ والمدينةِ من طريقِ الحُديْبِيةِ، وهيَ طريقُه المُعتادُ إلى مكَّةَ، بركَتْ راحِلةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ البَعيرُ الحامِلةُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، و”البَرْكُ”: جُلوسُ البعيرِ، فلمَّا رأى الناسُ ما فعلَ البَعيرُ، قالوا: حَلْ حَلْ، والمرادُ: هيَ كلِمةٌ تُستَعملُ لزَجرِ الناقةِ وحملِها علَى المَسيرِ، ثمَّ قالوا: خَلأَتِ القَصْواءُ، أي: وَقَفتْ وبرَكتْ وامتنعَتْ مِن المشيِ، والخَلاءُ للنَّاقةِ كالحِرانِ للفَرَسِ، و”القَصواءُ”: اسمُ ناقةِ رَسولِ اللهِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَفى عنها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تِلكَ الصِّفةَ، وقالَ: (وَما ذَاكَ لها بخُلُقٍ)، أيْ: ليسَ الخَلاءُ لها بِعادةٍ، ولكنَّ السَّببَ: أنَّها حبَسها حابِسُ الفيلِ، والمرادُ بـ “الفيلِ”: فيلُ أَبرهةَ الحَبَشِيُّ الذي أتى بهِ لهدْمِ الكَعبةِ، فمَنَعهُ اللهُ من دُخولِ مكَّةَ بجلوسِ الفيلِ، وهذا ما فَعلَتْهُ الناقةُ.
ثم استأنفَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوْجيهاتِهِ بقوْلِهِ: (والذي نَفسي بيدِهِ، لا يَسْألونَني خُطَّةً يعظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أَعطيْتُهمْ إيَّاها) يُقسِمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ كفَّارَ قُريشٍ لا يَسألوهُ أمرًا يتَّفِقونَ فيه على منعِ القِتالِ؛ تَعظيمًا لمكَّةَ والكعبةِ، إلَّا وافقَ علَيْها مِن أَجلِ حُرمةِ تلكَ الأماكِنِ وعِظَمِها عندَ اللهِ، ثمَّ زجَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الناقةَ فوَثَبتْ، أي: قامتْ، فعدلَ عن اتِّجاهِ قُريشٍ وولَّى راجعًا حتى نزلَ بِأقْصى الحُدَيبِيةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ و”الثَّمَدُ”: حُفرةٌ بها ماءٌ قليلٌ، وقولُهُ: (يتَبرَّضُه الناسُ تبرُّضًا)، أي: يأْخُذونَهُ قليلًا قليلًا، حتى ما لبِثَ الناسُ إلا نَزحُوه، أي: لم يُبقُوا مِنهُ شيئًا، فشَكا الناسُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَطشَ، فانتزَعَ سهمًا مِن كِنانَتِه، ثمَّ أمرَهمْ أنْ يجعلوهُ في تِلكَ الحُفرةِ، و”الكِنانةُ”: هي حافِظةُ الأَسهُمِ، فجَاشَ سَهمُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم بالرِّيِّ، والمرادُ بـ “يَجِيشُ لهم بالرِّيِّ”: هُو فَوَرانُ الماءِ حتى شرِبَوا جميعًا وارْتوَوْا، حتى أنَّهمْ صدَرُوا عنه، أي: رَجعوا عنه بعدَ أن قَضَوا حاجَتَهُمْ منه وارْتوَوْا، وهُو مِن مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودلائلِ نبوَّتِهِ الشَّريفةِ.
وبَيْنما الناسُ على تلكَ الحالةِ إذْ جاءَ بُديلُ بنُ وَرقاءَ الخُزاعِيُّ في نفَرٍ مِن قَومِهِ مِن خُزاعةَ، أي: في وَفدٍ من قومِهِ، و”خُزاعةُ”: اسمُ قَبيلةٍ، يُنسَبُ إِليها بُديلُ بنُ وَرقاءُ وكانُوا عَيْبةَ نُصْحِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ تِهامةَ، والمرادُ بـ “العَيْبةُ”: محلُّ نُصحِهِ ومَوضِعُ أَسرارِهِ، وهُم إِنْ كانوا مِن خُزاعةَ فهمْ أيضًا مِن أهلِ تِهامةَ، و”تِهامةُ”: مكَّةُ وما حَولها مِن البُلدانِ، فقالَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ: (إِنِّي تَركْتُ كَعبَ بنَ لُؤَيٍّ، وعامرَ بنَ لُؤَيٍّ نزلوا أعدادَ مياهِ الحُديْبِيةِ، ومَعَهم العُوذُ المَطافيلُ، وهمْ مُقاتِلوكَ وصادُّوكَ عنِ البيتِ)، وذِكْرُ بُدَيلٍ لهذَينِ الاسْمينِ كِنايةٌ عن أَهلِ مكَّةَ؛ لكونِ قُريشٍ الذين كانوا بمكَّةَ أجمعَ يُرجعُ أنْسابُهمْ إليهِما، والمرادُ بـ “أنَّهمْ نَزلوا أَعْدادَ مياهِ الحُدَيبِيةِ”: كثرةُ أَعدادِهمْ، أيْ كثرةُ الماءِ الذي يتَّسِعُ لهمْ مكانَ الحُدَيْبِيةِ، و”العُوذُ المَطافيلُ”: الناقةُ التي مَعها ولَدُها، وقيلَ: هيَ النِّساءُ ومعَها أولادُها، وهو كِنايةٌ عنِ استِعدادِهمْ لصَدِّ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الوُصولِ إلى البيتِ ولوْ بِالقتالِ، فأجابَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأوضحَ لبُدَيلٍ أنَّهمْ لم يَأْتوا لِقتالٍ، ولكنَّهمْ أَتوْا مُعتَمِرينَ بالبيتِ الحرامِ، وعلى قُريشٍ أنْ تُخلِّي بينَهُ وبينَ البيتِ خاصَّةً، وأنَّ قُريشًا قدْ نهِكَتهُم الحربُ، أي: أَتعَبتْهُمْ حتى بلغَ بهم الضَّررُ من تِلكَ الحروبِ، فَعلى قُريشٍ أنْ تختارَ بينَ أنْ يكونَ بيننا وبينهمْ صُلحٌ وهُدنةٌ زَمنيَّةٌ يُخلُّون فيها بينَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبينَ من تبقَّى مِن كُفَّارِ العربِ، قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (فإنْ أظْهرْ، فإنْ شاؤوا أنْ يدخُلوا فيما دَخَلَ فيه الناسُ فَعَلوا، وإلَّا فقد جَمُّوا)، و”الجَمُّ”: الرَّاحةُ، والمرادُ: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنْ ظهَرَ على مَن بقِيَ من كفَّارِ العربِ وغلبَهمْ؛ فإنْ شاءتْ قُريشٌ اتَّبعَتني كما اتَّبعَني الناسُ، وإلا بقُوا على صُلحِهمْ وهُدنتِهم معي، وهم في كِلتا الحالتينِ اسْتراحوا مِن جَهدِ الحربِ، ثمَّ يُقسِمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ قريشًا لَو امتَنعَتْ وأبَتْ ليُقاتِلنَّهمْ على ما جاءَ عليه فقال: (فوُالَّذي نفْسي بيدِه لأُقاتِلنَّهم على أمْرِي هذا حتَّى تَنفرِدَ سالِفَتي)، وقولُه: (تَنفرِدَ سالِفَتي)، أي: يَنفصِلَ مُقدَّمُ العنقِ، وهو كِنايةٌ عنِ القِتالِ حتى الموتِ، وقوله: (وليُنفِذَنَّ اللهُ أمرَهُ)، أي: لينصُرَنَّ دِينَه ويُظهِره، فهوَ نافِذٌ وماضٍ على كلِّ حالٍ؛ فأجابَ بُدَيلُ بنُ وَرْقاءَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهُ سيُبلِّغُ قُريشًا قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَرْضَهُ لهمْ، فأَتى بُدَيلُ قُريشًا وأَبلَغَهمْ أنَّه أَتى مِن عِندِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعَهُ منه مَقالةٌ، وخيَّرهُمْ في عَرضِها عليهمْ، فرفَضَ سُفهاؤُهمْ أنْ يُخبِرَهمْ بشيْءٍ، وطلَبَ ذَوُو الرَّأيِ منهُم السَّماعَ، فحدَّثهُمْ بقولِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقامَ عُروةُ بنُ مَسعودٍ على أَثرِ سَماعهِ مَقالةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالَ: (أيْ قَومٍ، أَلَسْتُم بِالوالِدِ؟ قَالوا: بَلى، قالَ: أوَلسْتُ بالولَدِ؟ قالوا: بَلى. قال: فهلْ تتَّهِموني؟ قالوا: لا، قالَ: ألَستُمْ تَعلمونَ أنِّي استَنْفرْتُ أهلَ عُكاظَ، فلمَّا بلَّحُوا عليَّ جِئتُكمْ بِأهلي ووَلَدي ومَن أَطاعني؟ قالوا: بَلى).
والمراد بـ “الوالِدِ والوَلدِ”: الشَّفَقةُ والمحبَّةُ، التي تًكونُ مِن الأبِ للابنِ، والنُّصحُ الذي يكونُ مِن الابنِ للأبِ.
و”عُكاظُ”: سوقٌ بِناحِيةِ مكَّةَ، وقولُهُ: (بلَّحُوا)، أي: امتَنعوا، وهوَ خِطابٌ يستَجلِبُ فيه مُوافقَتَهم على طلَبِهِ، ألا وَهو أنْ يأتيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ أنْ أَعْجَبتْهُ خُطَّةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي عرَضَها بُدَيلٌ، فأتَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجعَلَ يتكلَّمُ معَه، فأَجابَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بِمِثلِ إِجابتِهِ لبُديلِ بنِ وَرقاءَ، فلمَّا وجَدَ عُروةُ منهُ ذلكَ، قالَ: (أيْ مُحمَّدُ أَرأَيْتَ إنِ استَأْصَلْتَ أمْرَ قومِكَ، هلْ سمِعْتَ بأحدٍ مِن العَربِ اجْتاحَ أَهْلَهُ قَبلكَ؟!)، و”الاستِئصالُ، والاجْتِياحُ”: هوَ القَضاءُ علَيهِم، وقطعُ دابرِهِم، ثمَّ قالَ: (وإنْ تكُنِ الأُخْرى، فإنِّي واللهِ لَأَرى وُجوهًا، وإِني لَأَرى أَوشابًا من الناسِ خليقًا أنْ يفِرُّوا ويدَعوكَ)، “الأوشابُ”: الأَخْلاطُ مِن الناسِ ومنْ شتَّى القَبائلِ، و”خَليقًا”، أي: حَقِيقًا، والمرادُ: وإنْ كانتْ الغَلبَةُ لِقريشٍ، فما يلبَثُ أنْ يترُكَكَ أتباعُكَ ويفِرُّوا عنكَ، وهذا مُحقَّقٌ فيهم؛ لأنَّهم من أَخلاطِ الناسِ، فلمَّا قالَ عُروةُ كلِمَتهُ تلكَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ردَّ عليه أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه قائلًا: (امْصُصْ بِبَظْرِ اللَّاتِ؛ أنَحنُ نفِرُّ عنه وندَعُهُ؟!)، و”البَظْرُ”: قِطعةُ لحمٍ بينَ شَفرَيْ فَرجِ المرأةِ، و”اللاتُ”: اسمٌ لصَنمٍ من أَصنامِ قريشٍ، وهِي كِنايةٌ للعَربِ تُستَعمَلُ لمنْ أَرادَ أنْ يسُبَّ غيرَه، فأهانَ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه عُروةَ في آلهتِهِمْ؛ ردًّا منه على إِهانةِ عُروةَ لهمْ بِدعوتِهِ أنَّهم يفِرُّون عنْ رَسولِ اللهِ ويَدَعونَه، فسألَ عُروةُ: مَن هذا؟ فقيلَ لهُ: أَبو بَكرٍ، فتذَكَّرَه عُروةُ وتذكَّرَ مَحْسنةً لهُ معَه، فلمْ يُجِبْه ولم يردَّ على شَتْمِه وسَبِّه له، وقالَ: (لَولا يدٌ كانتْ لكَ عِندي لَمْ أَجْزِكَ بِها لأجَبْتُكَ)، وجعلَ يُكلِّمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُلَّما تكلَّمَ أخذَ بلِحْيتِهِ، والمُغيرَةُ بنُ شُعبةَ قائمٌ على رَأسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعَهُ السَّيفُ وعليه المِغْفَرُ، و”المِغْفرُ” ما يُوضعُ على الرأسِ تحتَ الخُوذَةِ ويُسدَلُ على الوَجهِ لِيحمِيَهُ من ضَرباتِ السَّلاحِ فلمْ يَعرِفْه عروةُ، حتى إنَّ عُروةَ كلَّما مدَّ بيدِهِ إلى لِحيةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ضرَبَ المُغيرةُ يدَهُ بنعلِ السَّيفِ، يقولُ له المُغيرةُ: أخِّرْ يدَكَ عن لِحيةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا عَرَفهُ عُروةُ تذكَّرهُ وتذكَّر غَدْرَتَه، وكانَ عُروةُ عمَّه، وكانَ المُغيرةُ صَحِبَ قومًا في الجاهِليَّةِ فقتلَهُمْ، وأخَذَ أموالَهم، ثمَّ جاءَ فأسلَمَ، حتى إنَّ عمَّه عُروةَ ما زالَ يَسعَى في دَفْعِ فِديةِ غَدْرَتِهِ هذِه، وقدْ ردَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على فِعلَةِ المُغيرةِ بِقولهِ: (أمَّا الإسلامُ فأَقبلُ، وأمَّا المالُ فلسْتُ منهُ في شيءٍ)، أيْ: وأمَّا المالُ فلا نَقْبلُهُ لكَوْنهِ مالًا مَغصوبًا أَتى بطَريقةِ الغَدْرِ.
ثمَّ إنَّ عُروةَ جعلَ يَرمُقُ أصْحابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَيْنيْهِ، و”الرَّمْقُ”: المُلاحظةُ، وعدَّ عُروةُ بعضَ المُلاحظاتِ التي وجَدَها في عَلاقةِ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، بِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، منها: أنَّهُ ما تنخَّمَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُخامةً إلا وقَعتْ في كفِّ رجلٍ مِنهُمْ، فدلَّكَ بها وَجهَهُ وجِلدَه، و”النُّخامةُ”: ما يخرُجُ من الصَّدرِ إلى الفَمِ، ومنها: ابتِدارُهمْ في أمرِهِ، وهو الإِسراعُ في تَلبِيةِ حاجاتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِنها: أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا توضَّأَ كادوا يقتَتِلونَ على وَضوئِهِ، وهو الماءُ المتبقِّي منه، ومنها: أنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا تكلَّمَ خفَضُوا أصواتَهُم عِندَه، ومنها: وكانوا رضوانُ اللهِ عليهمْ ما يُحدِّونَ إِليه النَّظرَ تعظيمًا له، و” الإِحدادُ”: شِدَّةُ النَّظرِ، فرَجَعَ عُروةُ إلى قومِهِ يُخبِرُهم بما جَرى معَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مُحاوراتٍ ومُباحثاتٍ، وأوَّلُ ما بدأَ في عَرضهِ معَهمْ، هوَ شِدَّةُ إِعجابِهِ وتعجُّبِهِ بعلاقة الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهمْ بِالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى إنَّهُ قارنَ بينَ تِلكَ العَلاقةِ وعلاقةِ أصحابِ الملوكِ بمُلوكِهمْ في تَعظيمِهم لهمْ كقَيصرَ، وكِسرى، والنَّجاشِيِّ، وبيَّنَ لهمُ المُفارقةَ بينَ هؤلاءِ وهؤلاءِ وعرَضَ بعضَ الصُّورِ المذكورةِ علَيهِمْ، ثمَّ أكَّدَ لهمْ أنَّ خُطَّةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّابِقةَ أنَّها خُطَّةُ رُشدٍ، أي: فيها الصَّوابُ لقُريشٍ، فَقالَ رجلٌ من بنِي كِنانةَ عقِبَ انتِهاءِ عُروةَ مِن مَقالتِهِ: (دَعوني آتِيهِ)، ويقصِدُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوافَقوه، فلمَّا أنِ اقتربَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصْحابِهِ، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (هذا فُلانٌ، وهُو مِن قَومٍ يُعظِّمونَ البُدنَ، فابْعَثوها لهُ)، أي: إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عرَفَه وعرَّفهُ لأصحابِهِ، ويُقالُ هو: الحُلَيْسُ بنُ عَلقمةَ الحارِثيُّ، والمرادُ بـ”تَعظيمِهمُ البُدْنَ”: عدمُ استِحلالِهمْ للإبلِ أوْ البقَرِ؛ لأنَّها مما يُهدَى إلى الحَرمِ، فأَرادَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإِرْسالِها أمامَهُ أن يؤَكِّدَ لهُ صِدقَ نَواياهُ وصِدقَ خُطَّتِهِ بأنَّهمْ أَتوا مُعتَمِرينَ، ففعلَ الصَّحابةُ ما أَمرَهمْ بهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُضافُ إلى ذلكَ استِقبالُ الناسِ لَهُ وهُم في حالةِ التَّلْبِيةِ؛ فلمَّا رأى الرَّجلُ هذا المشهدَ قالَ مُتعجِّبًا: (سُبحانَ اللهَ! ما يَنبغي لهؤُلاءِ أنْ يُصدُّوا عنِ البيتِ)، أي: ما يَنبغي لأحدٍ أن يَمنعَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه عن أداءِ عُمرتِهمْ، فرجَعَ إلى قومِهِ، ليعرِضَ عليهمْ ما رأى قائِلًا: (رأيتُ البُدْنَ قدْ قُلِّدتْ وأُشعِرَتْ)، وتقليدُ البُدنِ: أن يُعلَّقَ شيءٌ في عُنِقها، و”إِشعارُها”: أنْ يُجعَلَ على البَدَنةِ علامةٌ يُعلم بها أنَّها من الهَدْي.
وطلبَ مِكْرَزُ بنُ حَفصٍ مِن قُريشٍ أنْ يأتيَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلمَّا أن اقترَبَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِهِ، قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هَذا مِكْرَزٌ، وهُوَ رجُلٌ فاجِرٌ»؛ وجعلَ يتكلَّمُ معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبينَما هم على تِلكَ الحالةِ إذْ آتاهُ سُهيلُ بنُ عمرٍو، فاستَبْشرَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى إنَّه قالَ: (لقدْ سَهُلَ لكُمْ مِن أَمرِكُمْ)، فلمَّا جاءَهُ سُهيلٌ طلبَ مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يأتيهِ بِكِتابٍ يكتُبُه يكونُ بينَ قُريشٍ والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِهِ رضوانُ اللهِ عليهمْ، ويُرادُ بـ “الكِتابِ”: مُعاهدةٌ أو هُدنةٌ تكونُ بينَ المسلمينَ والكفَّارِ في أَمرهِمْ هذا، فدَعا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كاتِبَه، قيل هوَ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وبدأَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كتابَهُ بِـ(بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، فاعترَضَ سُهيلٌ على قولِهِ الرَّحمنِ، وقالَ: (أمَّا الرَّحمنُ، فواللهِ ما أَدْري ما هوَ ولكنِ اكْتُبْ بِاسمِكَ اللهمَّ كما كنتَ تَكتُبُ)، وقدْ كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَدءِ الإسلامِ يكتُبُ ذلكَ، فاعترَضَ الصَّحابةُ على تَغييرِ البَسْملةِ فنزَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على رَغبةِ سُهَيلٍ وطلَبَ مِن كاتِبهِ أنْ يكتُبَ باسمِكَ اللَّهُمَّ، ثم استَكملَ الكتابةَ، وفِيها: (هذا ما قاضَى عليْهِ مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ)، فاعترضَ سُهيلٌ، وقالَ: واللهِ لو كنَّا نعلَمُ أنكَ رسولُ اللهِ ما صدَدْناكَ عنِ البيتِ، ولا قاتَلناكَ، ولكنِ اكتُبْ: مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ.
فأجابَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالَ: (واللهِ إِنِّي لرسولُ اللهِ، وإنْ كذَّبتُموني، اكتُبْ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ)، وما فعلَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تصديقًا لقولِه: (والذي نَفسي بيدِهِ، لا يَسألُوني خُطَّةً يُعظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أَعْطَيتُهمْ إيَّاها)، ثم بَدَؤوا في كِتابةِ شُروطِ الصُّلحِ، وفيها: أنْ تُخَلُّوا بَيْننا وبينَ البيتِ لنَطوفَ بهَ، فأقرَّهُ سُهيلٌ ولكنْ على أنْ يكونَ الطوافُ في العامِ المُقبلِ حتى لا تَتحدَّثَ العربُ أنَّهمْ أُخِذوا ضُغْطةً، أي: قَهرًا وإجبارًا، فوافَقهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومِنها أيْضًا: وأنَّهُ لا يأتي رَجلٌ مِن قُريشٍ مُسلِمًا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا رَدَّهُ عليهمْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد اعترَضَ الصَّحابةُ على هذا الشَّرْطِ، وقالوا مُتعجِّبينَ: سبحانَ اللهِ! كيفَ يُرَدُّ إلى المُشركينَ وقدْ جاءَ مسلِمًا! فبَينما هُم كذلكَ يَتفاوَضونَ على هذا الشَّرطِ إذْ دخلَ أَبو جَندلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عَمرٍو يرسُفُ في قُيودِهِ، وقدْ خرجَ مِن أسفلِ مكَّةَ حتى رَمى بِنفسهِ بينَ أظهُرِ المُسلمينَ، و”الرَّسْفُ”: المَشيُ البَطيءُ بسببِ القُيودِ، فلمَّا رآهُ سُهيلٌ، قالَ: (هذا يا مُحمَّدُ أوَّلُ ما أُقاضيكَ عليه أْن ترُدَّه إليَّ)، أي: إنَّهُ مِن أوَّلِ شُروطِنا ردُّ أبي جَندلٍ على المُشركينَ ويفعلُ ما شَرَطنا عليه معَه، فأَجابَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إنَّا لم نَقضِ الكتابَ بعْدُ)، أي: لم نَنتهِ منهُ حالَ دُخولِ أَبي جَندلٍ عَلَيْنا، فتعنَّتَ سُهيلٌ، وقالَ: (فواللهِ إذن لَمْ أُصالِحْكَ على شيءٍ أَبدًا)، فوافقَ له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على هذا الشَّرطِ على أنْ يَستَثْنِيَ منهُ أبا جَندلٍ، وفاوضَ عليه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أطرافَ المُشركينَ، قائلًا لسُهَيلٍ: (فأَجِزْهُ لي)، أي: وافِقْ على أَبي جَندلٍ بصِفةٍ خاصَّةٍ، فرفضَ سُهيلٌ طلبَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَاستمرَّت هذه الحالُ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبِسُهيلِ بنِ عَمرٍو، فتدخَّلَ مِكْرزٌ الذي كانَ حاضرًا لكِتابةِ الصُّلحِ، قائلًا: (بلْ قدْ أَجزْناهُ لكَ)، أي: وافَقْنا على طلبِكَ هذا، ويُوضِّحُ كلامُ أبي جَندلٍ الآتي أنَّهُ لم ينزِلْ سُهيلٌ على كلامِ مِكْرَزٍ، بلْ ردَّهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهمْ، حتى إنَّ أبا جَندلٍ قالَ مُتعجِّبًا: (أيْ مَعشرَ المُسلمينَ، أُرَدُّ إلى المشركينَ وقدْ جئتُ مُسلِمًا، ألَا ترونَ ما قدْ لقِيتُ؟ وكانَ قدْ عُذِّبَ عذابًا شديدًا في اللهِ؟!)، فتعَجَّبَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه مِن موقفِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومِن شُروطِ الصُّلحِ التي ليسَ في ظاهِرِها خيرٌ للمُسلمينَ، فأتى عمرُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتسائِلًا والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُجيبُه: (ألستَ نبيَّ اللهِ حقًّا؟! قالَ: بلى! قلتُ: ألسْنا على الحقِّ، وعدُوُّنا على الباطلِ؟! قالَ: بلى! قلتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنِيَّةَ في دِينِنا إذن؟! قالَ: إنِّي رسولُ اللهِ، ولستُ أَعصيهِ، وهو ناصِري، قُلتُ: أَوَليسَ كنتَ تحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ فنطوفُ بهِ؟ قال: بلى! فأخبرْتُكَ أنَّا نأتيهِ العامَ؟! قالَ: قلتُ: لا، قالَ: فإنَّكَ آتيهِ ومُطوِّفٌ بِه)، و”الدَّنِيَّةُ”: النَّقيصةُ والمذلَّةُ، فأَتى عمرُ أبا بكرٍ رضيَ اللهُ عنهما وقالَ لهُ ما قالَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأَجابَهُ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه بقولهِ: (أيُّها الرُّجُلُ، إنَّهُ لَرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وليسَ يَعصي ربَّه، وهو ناصِرُه، فاستَمْسِكْ بغَرْزِهِ؛ فواللهِ إنَّه على الحقِّ)، والمرادُ بـ “فاستَمسِكْ بغَرْزِهِ”: الزَمْ أمرَه، وتمسَّكْ بهِ ولا تُخالِفْه؛ فإنَّهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقيَّدٌ بالوَحيِ مُؤيَّدٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، يقولُ عمرُ رضيَ اللهُ عنه بعدَ مَوقفهِ هذا: (فعَمِلتُ لذلكَ أَعمالًا)، أي: أَتيتُ أعْمالًا صالحةً عَسى أن يُكفِّرَ اللهُ لي بهِ مَوقفي هذا، وقيلَ معنَى هذا: أنَّه سَعَى في تَساؤُلاتِهِ تلكَ والتَّعجُّبِ مِن شُروطِ الصُّلحِ معَ مُعظمِ الصَّحابةِ.
فلمَّا قَضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كتابَهُ وانعقدَ الصُّلحُ الذي بينَهُ وبينَ قُريشٍ، أمرَ الصحابةَ أن يَنحَرُوا ويَحلِقوا، فلمْ يَستجِبْ منهمْ أحدٌ لأمرِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتى إنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالها ثلاثَ مرَّاتٍ، ومعَ كلِّ مرةٍ لم يَستجِبْ أحدٌ مِنَ الصحابةِ؛ ولعلَّهم تأخَّروا في تَنفيذِ أمْرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رجاءَ نُزولِ الوحيِ بإبطالِ الصُّلحِ المذكورِ؛ ليتمَّ لهم قضاءُ نُسُكهم، وقِيلَ غير ذلك.
فدخلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أمِّ سلمةَ يَشكو إِليها امتِناعَ أصحابِهِ رِضوانُ اللهِ عَليهِمْ مِن تَلبِيةِ أَوامرِهِ، فأشارتْ عليه أمُّ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها بأنْ: لا تتكلَّمْ معَ أحدٍ منهمْ كلمةً، حتى تنحَرَ بُدْنَكَ، وتدْعوَ حالِقكَ فيَحلِقَكَ، فرضِيَ النبيُّ صلى عليه وسلم ما قالتْ، وخرجَ وفعلَ ما أَشارتْ بهِ.
قيلَ: إنَّ حالِقَهُ خِراشُ بنُ أمَّيةَ بنِ الفَضلِ الخُزاعِيُّ، فلمَّا رأى الصَّحابةُ فِعلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاموا ففَعلوا فِعلَهُ واهتَدَوْا بِهَدْيِهِ، حتى كادَ بعضُهم يقْتُلُ بعضًا غمًّا، أي: حُزنًا على أنَّهم صُدُّوا عن البيتِ ولم يُكْمِلوا نُسكَهم، ولتَحقُّقهم مِن فِعلِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك أنَّ الأمرَ نافذٌ، وأنَّ الوحيَ لم يَنزِلْ ولم يُبطِلِ اللهُ الصُّلحَ وشُروطَه المجحفةَ، وأنَّهم بذلك قدْ تأخَّروا في تنفيذِ أمرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأوَّلِ لهم بالتحلُّلِ والحَلقِ والنَّحْر.
ثم جاءَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِسوةٌ مُؤمناتٌ بعدَ انقِضاءِ الصُّلحِ فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ قولَهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ …} [الممتحنة: 10]، والمرادُ: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يَقْبَلَ النِّساءَ التي أَتتْ إليهِ بعدَ اختِبارِهنَّ بعدَ أنْ عَرَفوا أنَّهنَّ إنما جِئنَ رَغبةً في الإسلامِ، وبعدَ التأكُّدِ لا يُعيدُ المسلمونَ النّساءَ المؤمناتِ إلى الكفَّارِ، وعلى المؤمنينَ ألَّا يَستمْسِكوا بزَوجاتِهم الكافراتِ، حتى إنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه طلَّقَ يَومئذٍ امرأَتينِ، كانَتا له في الشِّركِ، فتزوَّجَ إحداهما مُعاويةُ بنُ أبي سُفيانَ، والأخرى صَفوانُ بنُ أمَّيةَ.
ثم رجعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المدينةِ، فجاءَ أبو بَصيرٍ- وهو رجلٌ من قُريشٍ- إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المدينةِ وهو مُسلِمٌ، فأَرسلتْ قُريشٌ في طلبِهِ رجلَيْنِ، وذَكروا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَهدَ الذي بينَهمْ وبينَهُ في ردِّ كلِّ من يأتي مُسلِمًا من قريشٍ، فردَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا بصيرٍ لهمْ، فخرجَ الرَّجلانِ بأَبي بَصيرٍ من المدينةِ، حتى إذا كانوا بِذي الحُلَيفةِ نَزلوا يَأكلونَ مِن تمرٍ لهمْ، فاستغلَّ أبو بَصيرٍ رضيَ اللهُ عنه الموقِفَ وخادَعَ الرَّجلينِ اللَّذَينِ كانا معَه، فقالَ لأحدِهما: واللهِ إنِّي لأَرى سيفَكَ هذا يا فلانُ جيِّدًا، فاستلَّهُ صاحبُ السيفِ له، أي: سَحبَه مِن غِمدِهِ، وبدأَ الرجلُ يمدَحُ في سيفهِ له، فطلَبَ أبو بصيرٍ أن يرِيَه سيْفَه ويضعَهُ في يدِهِ، فأعْطاهُ الرجُلُ له، فضرَبَهُ أبو بصيرٍ بالسَّيفِ حتَّى برَدَ، أي: ماتَ، فلمَّا رأى ذلكَ الرجلُ الآخَرُ فرَّ هاربًا نحوَ المدينةِ حتى دَخلَ مسجِدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعْدُو، أي: مُسرِعًا، فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ رآهُ: (لقدْ رأَى هذا ذُعرًا)، أي: فزعًا وخوفًا، فلمَّا انتهى إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالَ: قُتِلَ واللهِ صاحِبي وإنِّي لمقتولٌ، فجاءَ أَبو بَصيرٍ، فقالَ: يا نبيَّ اللهِ، قدْ واللهِ أَوفَى اللهُ ذِمَّتكَ، قدْ رَددْتَني إليهِمْ، ثمَّ أنجاني اللهُ منهمْ، أي: ليسَ عليكَ حرجٌ بعدَما وَفَّيتَ لهم عَهدَهُمْ، وقد أنجاني اللهُ منهمْ، وقالَ أبو بصيرٍ ذلكَ: ظنًّا منهُ أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيرْضَى بهِ ويُبقِي عليه، فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (وَيْلُ أُمِّهِ! مِسْعَرَ حَربٍ، لَوْ كانَ لهُ أحدٌ)، و”الوَيْلُ”: العذابُ، وهيَ كلِمةٌ أصلُها دُعاءٌ عليْهِ ولكنَّها استُعمِلتْ هُنا للتعجُّبِ من عَملِهِ، و”مِسْعَرُ حَربٍ”: مُحرِّكٌ للحربِ ومُوقِدٌ لنارِها، والمرادُ: أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعجَّبَ من فِعلةِ أبي بَصيرٍ، حتى وَصفَه بأنَّه مُحرِّكٌ للحربِ وموقِدُها لو كانَ معَه أحدٌ ينصُرُهُ ويعاضِدُه، فعرَفَ أبو بَصيرٍ رضيَ اللهُ عنه أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيردُّهُ إلى قريشٍ بعدَ كلِمتِهِ هذِه، فخرجَ حتى أَتى سِيفَ البحرِ، و”سِيفُ البَحرِ” بكَسرِ السِّين، أي: وهو على ساحلُ البحرِ، وكانوا في طريقِ أهلِ مكَّةَ إذا قَصدوا الشَّامَ، فانفَلتَ إِليهِ أبو جَندَلِ بنُ سُهيلٍ؛ أي تخلَّصَ من قُريشٍ بالذِّهابِ إلى أبي بصيرٍ، كما لَحِقَ بهِ كلُّ رجلٍ أسلمَ من قُريشٍ بعدَ الصُّلحِ، حتى اجتَمعتْ مِنهم عِصابةٌ، و”العِصابةُ”: تُطلَقُ على الأَربعينَ فما فوقَ ذلكَ، فما يَسمَعونَ بِعِيرٍ خَرجتْ لقُريشٍ إلى الشَّأمِ إلا اعترَضوا لها، فقتَلوهُمْ وأَخذوا أَموالهمْ، والمرادُ بـ “العِير”: القافِلةُ، فتضرَّرتْ قريشٌ مِن هذا حتى إنَّها أرسلتْ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، تناشِدُهُ باللهِ والرَّحِمِ الذي بَينَهمْ أنْ يُرسِلَ إلى أَبي بَصيرٍ ومنْ معَه ليكفُّوا عنهُمْ ما يفعلوا، وأنَّ مَن أَتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو آمِنٌ وليسَ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يرُدَّهُ إلى قُريشٍ، ففعلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأرسلَ إِلَيهمْ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ على أثرِ هذا الحدثِ قولَهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ…} [الفتح: 24-26]، و”الحَمِيَّةُ”: هي التعصُّبُ لغيرِ الحقِّ، وكانتْ حَمِيَّةُ قريشٍ أنَّهم: لم يُقِرُّوا أنَّهُ نبيُّ اللهِ، ولم يُقِرُّوا بِـ(بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ)، وحالُوا بينَهمْ وبينَ البيتِ.
وفي الحديثِ: أنَّ اللهَ تعالى يَنصُر هذا الدِّينَ بما قدْ يَظُنُّ البعضُ أنَّه خِذلانٌ، وأنَّ الفرَجَ مع الصَّبرِ.
وفيه: أنَّ طاعةَ اللهِ ورسولِه واجبةٌ دون النَّظرِ إلى معرفةِ الحِكمةِ مِن الأمْرِ أو النَّهي..
مصدر الشرح:
https://dorar.net/hadith/sharh/22892