الإيمان بالله واليوم الآخر أول معالم شكر النعم

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال: “إن اللهَ تَعالى يَقُولُ لِلعَبْدِ يَوْمَ القِيامَةِ: ألَم أُكْرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ والإبِلَ، وأذَرْكَ تَرْأسْ، وتَرْبَعْ؟ فَيَقُولُ: بَلى. فَيَقُولُ: أفَظَنَنْتَ أنَّكَ مُلاَقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لاَ. فَيَقُولُ: فَإنِّي أنْساكَ كَما نَسِيتَنِي”
صحيح مسلم : ٢٩٦٨
(وأُسَوِّدْكَ) أي: أجعلك سيدًا مستغنيًا عن غيرك.

الشرح و الإيضاح

رُؤيةُ المُؤمنِينَ للهِ عزَّ وجلَّ يومَ القِيامةِ أعظمُ نعيمٍ، وقد كان الصَّحابةُ رضيَ اللهُ عَنهم من حرصِهم يَشغَلُهم ذلك، وفي هذا الحديثِ يخبرُ أبو هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ: أنَّهم قالوا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “يا رسولَ اللهِ، هلْ نَرى ربَّنا يومَ القِيامةِ؟”، أي: هلْ يَكشِفُ ربُّنا عزَّ وجلَّ عن وجهِهِ لنا فَنراهُ رأيَ العَينِ؟ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “هلْ تُضارُّونَ في رُؤيةِ الشمسِ في الظَّهيرةِ؟”، أي: هلْ يُصيبُ بعضُكم بعضًا بالضَّررِ مِن المزاحَمةِ والمدافَعةِ عند النَّظرِ إلى الشمسِ، أم أنَّ كُلًّا منكم يَنظرُ إلَيها بسُهولةٍ دونَ أن تَتدافَعوا أو تَتزاحَموا؟ “ليستْ في سَحابةٍ”، أي: ليستِ الشمسُ في سحابٍ أو غُيومٍ تَحجُبها عن الرُّؤيةِ، قالوا: “لا”. قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “فهَلْ تُضارُّونَ في رُؤيةِ القَمرِ ليلةَ البَدر”، أي: هلْ يَضرُّ بعضُكم بعضًا من التدافُعِ والتزاحُمِ حينما تَنظرون إلى القَمرِ ليلةَ البدرِ أم أنَّكم جميعًا تَنظرونَ وكلُّكم يَنظُر إليه بسهولةٍ دونَ ضَررٍ أو تَعبٍ؟ “ليسَ في سَحابةٍ”، أي: وليس القَمرُ في سَحابٍ أو غُيومٍ يحجبه عن الرُّؤيةِ، قالوا: “لا”، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:”فوالَّذي نَفسي بيدِه”، أي: قاسمًا باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلكَ لأنَّ اللهَ هو الذي يملِكُ الأنفُسَ، وكثيرًا ما كان يُقسِمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا القَسمِ، “لا تُضارُّونَ في رُؤيةِ ربِّكم”، أي: إنَّكم سَترَونَ ربَّكم دُونَ أن يُصيبَكم ضررٌ ودُونَ مُغالبةٍ أو مدافعةٍ أو مزاحمةٍ في رُؤيتِه بلْ سَترَونه بسُهولةٍ وتَتمتَّعون بالنَّظرِ إلى جَمالِه وجلالِه، “إلَّا كما تُضارُّونَ في رؤيةِ أحدِهما”، أي: كما لا تُضارُّونَ في رُؤيةِ الشمسِ والقمرِ وليسَا في سَحابٍ أو غيومٍ، فكذلِك تَكونُ رُؤيتُه جلَّ جلالُه جَليَّةً بيِّنةً كما لا يُشَكُّ في رُؤيةِ الشَّمسِ والقمرِ، وهذا تَشبيهٌ للرُّؤيةِ بالرُّؤيةِ مِن حيثُ جَلاؤُها وظُهورُها; وليس تَشبيهًا للمَرئيِّ بالمرئيِّ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليس كمثلِه شيءٌ. .
قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “فيَلْقى العبدَ”، أي: فيَلقى اللهُ العبدَ، وذلكَ العبدُ الكافرُ أو الفاجرُ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للعبدِ: “أي فُلُ”، أي: يا فلانُ، “ألم أكرِمْكَ”، أي: ألستُ قد أكرمتُك في الدُّنيا، “وأسوِّدُكَ”، أي: وأجعلُكَ سيِّدًا، “وأزوِّجُك”، أي: وأهَبُ لكَ زَوجةً، “وأسخِّرُ لكَ الخيلَ والإبلَ”، أي: يكونونَ في خِدمتِك وطَوعِكَ، “وأَذَرْكَ تَرأسُ”، أي: وأتركُكَ تكونُ رئيسًا، “وتَربَعُ؟” قيلَ معناها: تأخذُ رُبعَ الغَنيمةِ، وكانوا في الجاهِليَّةِ يأخذُ سيَّدُ القومِ ورئيسُهم رُبُعَ الغَنيمةِ، وقيلَ: تَستريحُ، فيقولُ العبدُ: “بلى”! أي: يقرُّ بكلِّ تلك النِّعمِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ للعبدِ: “أفظننتَ أنَّك ملاقِيَّ؟”، أي: هلْ كنتَ تظنُّ أنك سَتلقاني وتقِف بينَ يديَّ؟ فيقولُ العبدُ: لا! وذلكَ من نِسيانِه لربِّه واشتِغالِه بدُنياه عن آخرتِه، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: “فإنِّي أنساكَ كما نَسيتَني”، أي: أتركُك ولن أمنحَكَ رَحمتي ومَغفرتي؛ لأنَّكَ نَسيتني في الدُّنيا، ولم تفعلْ ما أمرتُكَ به وما كنتَ تؤمِنُ أنَّك ستلقاني، “ثم يَلقى الثاني”، أي: ثم يَلقى اللهُ العبدَ، وذلك العبدُ الكافرُ أو الفاجرُ، فيقولُ اللهُُ عزَّ وجلَّ له: “أي فُلُ”، أي: يا فلانُ، “ألم أُكرِمْكَ”، أي: ألم أَمنحْكَ كَرمي وعَطائي في الدُّنيا، “وأسوِّدُك”، أي: وأجعلُك سيدًا، “وأُزوِّجكَ”، أي: وأمنحُك زَوجةً، “وأسخِّر لكَ الخيلَ والإبلَ”، أي: وأُذلِّلُ في خِدمتِكَ الدوابَّ، “وأذَرُكَ تَرأسُ وتَربَعُ؟”، أي: وأجعلُك رئيسًا وأترُككَ تَستريحُ وتَنعَمُ! فيقول العبدُ: “بَلى! أي ربِّ”، أي: نَعم أقِرُّ بكلِّ تلكَ النِّعمِ التي أنعمتَ بها عليَّ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: “أفظنَنْتَ أنك مُلاقيَّ؟”، أي: هلْ كنتَ تظُنُّ أنك سَتلقاني وتقِفُ بينَ يديَّ؟ فيقولُ العبدُ: لا. أي ما كنتُ أظنُّ أنِّي سألقاكَ وأقفُ بينَ يديكَ. فيقولُ اللهُ للعبدِ: “فإنِّي أنساكَ كما نَسيتني”، أي: فإنِّي أتركُك ولن أمنَحَك رَحمتي وغُفراني؛ لأنَّك نَسيتَني في الدُّنيا وما كنتَ تؤمن أنكَ سَتلقاني.
“ثم يلقى الثَّالثَ”، أي: ثمَّ يَلقى اللهُ العبدَ الثالثَ، وذلك العبدُ المنافقُ، “فيقولُ لهُ مِثلَ ذلكَ”، أي: فيقولُ الله لذلكَ العبدِ مثلَ ما قالَ للعَبدَينِ الآخرَينِ، فيقولُ العبدُ للهِ: يا ربِّ، “آمنتُ بكَ وبكتابِك وبرُسلِكَ”، أي: أمنتُ بك وشهِدتُ أنَّه لا إلهَ إلَّا أنتَ، وآمنْتُ بكُتبِك المُنزَّلةِ من السَّماءِ، وآمنتُ برُسُلِك التي أرسلتَها بما يبلِّغونَنا عنكَ ربَّنا، “وصلَّيتُ وصُمتُ وتصدَّقتُ”، أي: وصلَّيتُ الصلواتِ التي فرَضْتَها عليَّ، وصُمتُ ما أمرْتَني به، وتصدَّقتُ من مالي، “ويُثني بخيرِ ما اسْتطاعَ”، أي: ويُخبرُ بكلِّ ما يتذكَّرُه من أفْعالِ الخيرِ التي عمِلَها في الدُّنيا، فيقولُ اللهُ للعبدِ: “هَاهنا إذنْ”، أي: قِفْ هاهنا معَ ما ذكرتَ من أعمالٍ؛ لكي نأتي بالشُّهودِ عليكَ، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “ثم يُقال له: الآنَ نَبعثُ شاهِدَنا عليكَ”، أي: نأتي بالذي وكَّلْناهُ يَشهدُ عليكَ. “ويَتفكَّرُ في نفسِه”، أي: ويُحدِّثُ العبدُ نفسَه فيقولُ: “مَن ذا الذي يَشهدُ عليَّ؟”، أي: مَن هذا الذي سَيأتي ويشهدُ عليَّ، “فيُختَم على فِيهِ”، أي: فيُطبقُ على فَمهِ فما يَستطيعُ الكلامَ، “ويقالُ لفَخِذِه ولحمِه وعِظامِه: انطِقي”، أي: يأذَنُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأعضاءِ ذلك العبدِ الثالثِ بأنْ تَنطِقَ وتشهدَ على فعلِ هذا العبدِ، “فتَنطقُ فخِذُه ولحمُه وعظامُه بعَملِه”، أي: فتَتكلَّمُ أعضاؤُه وتُقرُّ بما فعلَ وما صنعَ في حياتِه في الدُّنيا، “وذلكَ ليُعذِرَ من نَفسِه”، أي: وذلكَ ليُزيلَ اللهُ به عُذرَه الذي كان يحاجُّ بهِ ويجادِلُ عنه، يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “وذلكَ المنافِقُ”، أي: وذلكَ العبدُ الثالثُ هو العبدُ المنافقُ، “وذلكَ الذي يَسخطُ الله عليهِ”، أي: وذلكَ هو الذي يَغضبُ الله عليهِ ويَستحِقُّ العقابَ مِن اللهِ تعالى بما كان يُظهرُه في الدُّنيا من أَعمالٍ صالحةٍ ولم تكن لله عزَّ وجلَّ.
وفي الحديثِ: إثباتٌ لرُؤيةِ المؤمنينَ للهِ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ.
وفيه: بيانُ حِسابِ اللهِ للعبدِ ووقوفِه بينَ يديهِ.
وفيه: بيانُ شَهادةِ الأعضاءِ، ونُطقِها بما فعلَ صاحِبُها يومَ القيامةِ.
وفيه: بيانُ جَزاءِ المنافقِ وعقابِه، وغَضبِ اللهِ تعالى عليهِ.
مصدر الشرح:
https://dorar.net/hadith/sharh/26782

تحميل التصميم